الجمعة، 14 فبراير 2014

التعليم في تونس .. أزمة منظومة أم منظومة أزمة

من طرف Unknown  |  سياسة :

التعليم في تونس .. أزمة منظومة أم منظومة أزمة



(إن الثورة الحقيقيّة هي تلك التي تحقق ثورة موازية في التعليم) .. الفيلسوف الأمريكي جون ديوي
خضعت المنظومة التعليمية والتربوية بمختلف مراحلها في تونس منذ الاستقلال الى عدة برامج إصلاح بدأت بالمشروع الذي ارتبط باسم الأديب محمود المسعدي سنة 1958 كتطبيق لمشروع الاتحاد العام التونسي للشغل، والذي تم استقاؤه من مشروع آخر أعده الخبير الفرنسي جان دوبياس، وقد قدّم المشروع على أنه نموذج موحد يهدف أساسا الى إنتاج السمات العامة والمشتركة للشخصية التونسية بعدما تميزت الفترة الاستعمارية بالتعدد التعليمي والتربوي، والذي كان سببا في خلق صراع بين المدارس الزيتونية والتي تمثل النموذج التقليدي من ناحية والمدارس الفرنسية-العربية والتعليم الصادقي والتي تمثل النموذج الحداثي من ناحية ثانية، وهنا تجدر الاشارة الى أن السلطة الاستعمارية عمدت الى تأجيج الصراع والمؤامرات بين النموذجين عبر تكريس اصلاحات مموّهة وشكليّة كان أساسها فرنسة المناهج التعليمية بما يخلق جيلا جديدا من التونسيين كفيلا بضرب كل مقومات الشخصية الوطنية والهوية العربية والإسلامية.
وبرغم ما اتسم به مشروع 1958 من دعوة الى مجانية وديمقراطية التعليم كشعار عبر السعي الى نشر المدارس في جل أنحاء البلاد، إلا أنه اتضح بعد ذلك أن هذا المشروع تم استغلاله في التسويق والدّعاية السياسية، خصوصا في تلكم العشرية التي شهدت صراعا حادا بين بورقيبة وبن يوسف حول الزعامة بعدما انحازت الفصائل الطلابية الزيتونية آنذاك للتيار اليوسفي، والدارس للشأن التربوي منذ الاستقلال لا بد أن يلحظ انقلاب بورقيبة عن وعوده بترسيخ الهوية العربية الاسلامية في السياسة التربوية باستعمال اللغة العربية كلغة تدريس لجميع المواد مع الاستفادة من اللغة الفرنسية عند الضرورة ولأجل مؤقت لنصل في الأخير وعبر سياسة المراحل الى الفرنسة شبه الكاملة.
كما سعت وزارة التعليم العالي التونسية طيلة الفترة التي أعقبت الاستقلال الى تكوين الكثير من الأساتذة الجامعيين الخبراء في جل الاختصاصات عبر ارسالهم إلى الخارج، أساسا فرنسا وبمِنح حكومية لينخرطوا بعد ذلك في المنظومة التعليمية والبحثية، وتواصل ارسال طلبتنا المتفوقين الى خارج الوطن دون أي ضامن يؤمن رجوعهم مما أدى الى افراغ الجامعة التونسية من طاقاتها وفي الآن نفسه لم تسعى الى ارساء مسار تعليمي قادر على استيعابهم حتى يكونوا بعد ذلك أهم ركيزة يمن أن ترتكز عليها المجموعة الوطنية في رفع مستوى جامعاتها إلى مصاف الدول المتقدمة بدون الاحتكام المتواصل للغرب، وحتى تصبح بالفعل دولة ذات سيادة حقيقية، وأصبحت الجامعة التونسية بعد ذلك مجمعا لكليات ومدارس عليا مبعثرة خاضعة لتسيير بيروقراطي سلطوي يتم من خلاله اقصاء القوى الفاعلة في رسم تصور لمهام الجامعة ووظائفها في مجالي التدريس والبحث، نهيك عن الصراعات الإيديولوجية والتجاذبات الفرانكو يسارية التي ميزت مرحلة التعاضد والتي دشنت مرحلة الانهيار التربوي في تونس، وهنا تجدر الاشارة الى أن المراجعات لم تتوقف عمليا إلا في أواسط السبعينات عندما تم اقرار ما يعرف ب "إصلاح الإصلاح" حيث تم فصل التعليم المهني عن التعليم العام وانقسام التعليم الثانوي إلى مرحلتين يتوّجان باجتياز امتحان البكالوريا.
والمتتبع لخصائص السياسة التعليمية المنتهجة في بلادنا يلحظ بأن برامج الاصلاح ظلت ولعقود مثقلة بهواجس التحكم لدى الدولة والتي لم تستند الى إستراتيجية دولتية واضحة، حيث حكمت المنظومة التربوية بتجاذبات المرحلة وارتبطت بتعاقب أسماء كانت تحت التأثير المباشر للسياسة العامة للحكم ابتدء من المسعدي ومرورا بأحمد قريعة والمزالي في السبعينات ووصولا الى الشرفي أوائل التسعينات وانتهاء بالأزهر
بوعون، حتى بدت كل المحاولات الاصلاحية وكأنها مبنية على شاكلة ما يعرف في الفقه بالناسخ والمنسوخ وهو ما لم يحدث التراكم النوعي المنشود بل وأدى الى فقد التعليم وظيفته كجسر للتواصل بين الأجيال وكخزينة نحافظ بها على الذاكرة الوطنية، فإنشاء المنظومة التعليمية والتربوية يعتمد أساسا على سيرورة طويلة الأمد قادرة على خلق الأطر والمرجعيات والتوجهات الأكاديمية التي من شأنها أن تؤمن مناعة هذه المنظومة، حتى أن شخصية المتلقّي أضحت منحدرة في مستواها الأخلاقي والاجتماعي بما اكتسبته من سلوكيات غريبة ودخيلة بما انعكس سلبا على مردودية المؤسسة التعليمية في جميع مراحلها بعدما فقدت خاصيتها القيمية والأخلاقية فانخفضت قابلية التلقي لدى التلميذ والطالب التونسي الذي تراجعت مكانته العالمية بعدما كان مدعاة للافتخار والاعتزاز من حيث التميّز النظري، ولئن تميزت الفترة البورقيبية بنسبة ضعيفة ومحتشمة في نسبة الولوج للتعليم العالي بسبب الاستراتيجية الانتقائية التي كانت تفرض من خلال فرز صارم عبر امتحان الباكالوريا إلا أنها كانت العامل الأساسي في الحفاظ على مستوى عال للتعليم الجامعي تقر به المؤسسات الدولية المختصة وقد سجل التاريخ يوما بأن المانيا الاتحادية ناظرت شهادة الباكالوريا التونسية بالشهادة الألمانية في الوقت الذي يضطر فيه باقي الطلبة من مختلف الجنسيات على إعادة اجتياز الباكالوريا بمواصفات ألمانية.
ان الدفاع عن مبدأ الاصلاح الذي تم الترويج له داخل النسيج الاجتماعي والإعلامي منذ الاستقلال على أنه مرتبط بصفة مباشرة بالإمكانيات قد عمّق الأزمة وزاد من حدّتها، لأنه وببساطة الأمر كان يتعلق بالأساس بالإرادات وصدق النوايا كما هو مرتبط بالاستراتيجيات والتقويمات والمناهج ولعل غياب مكونات المجتمع المدني وتمادي الأحزاب الكرطونية والنقابات الممثلة لهذا القطاع في انصياعها للسياسات المتبعة من قبل الأنظمة الحاكمة يجعل مسؤولياتها أكبر،عما وصلت اليه المنظومة التعليمية والتربوية وعن الجرائم التي اقترفت في حق أجيالنا، لذلك كان لا بد لنا من الحديث عن قطيعة بين مرحلتين : مرحلة ما قبل بن علي ومرحلة ما بعد بن علي، على أن كلتيهما افتقد لما اصطلحنا عليه سابقا بالتراكم النوعي المنشود، ذلك أن الحديث عن الاستثمار في "المادة الشخمة" بدلا عن السلاح كما دأب بورقيبة على الترويج لها، لم يكن سوى تسويقا لنجاحات وهمية تغطي الاخلالات الجوهرية المتعلقة بدمقرطة التعليم فترتيب جامعاتنا في الواقع لم يتجاوز حدود القارة السمراء .
ولمّا كانت المؤسسة التعليمية والتربوية على مستوى من الخطورة بالنسبة لنظام بن علي لما تمثله من أرضية ملائمة لصناعة الاستقطاب الأيديولوجي والتجاذب السياسي ولخلق شباب قادر على التحليل والتساؤل والنقاش، فقد استهلها بتعيين محمد الشرفي ذو المرجعية الماركسية الراديكالية وأحد مؤسسي حركة آفاق في الستينات من القرن الماضي، وهو ما أشعل الأجواء الجامعية وأثار حفيظة الاسلاميين حيث أصدروا بيانا في أكتوبر 1989 طالبوا فيه بإقالة هذا الوزير واتهموه بالعمالة للجهات السياسية الفرنسية وبزرع العلمانية في البرامج التربوية واجتثاث الحركة الاسلامية من الفضاءات التربوية والجامعية، وبقطع النظرعن صدقية هذه الاتهامات من عدمها فان النتيجة كانت سقوط المنظومة من جديد في خندق الاستقطاب الايديولوجي فكان عاملا أساسيا في تسريع قرار المواجهة بين النظام والإسلاميين، وعلى اثر مغادرة الشرفي منصبه بعد تحوير وزاري عقب الانتخابات التشريعية سنة 1994 بدأ النظام الحاكم ينتهج مسارا جديدا في التعامل مع منظومة التعليمية يعتمد أساسا على افراغ جميع البرامج من أي مضمون علمي وعلى تسطيحها باعتماد طرق تقييمية لا تخضع الى مقاييس بيداغوجية دقيقة وحقيقية والتي من المفروض أن تكون كفيلة بتكوين أبناء وبنات مجتمع المستقبل بقيم العصر وبمؤهلات معرفية تجعلهم قادرين على استعمالها في وضعيات مستجدة، فيلتحق الطالب التونسي بالجامعة وهو غير مؤهل لاستيعاب برامج سطّرت على هوى صناع السياسة والبرامج الوهمية وبعيدا عن تشريك الأطراف المعنية من أحزاب ونقابات وخاصة الأساتذة والطلبة عبر هياكلهم الممثلة والقانونية.
وتتواصل أوركسترا الخطط والسياسات والإستراتيجيات المختلفة لما يسمى بالإصلاحات الهيكلية والجوهرية لمنظومتنا التربوية والتعليمية طيلة الفترة "النوفمبرية" حتى وصلنا الى آخر مشروع تحت اشراف الوزير الأزهر بوعون وهو ما عرف بثلاثية إمد "الإجازة-الماجستير-
الدكتوراه" والذي جاء في ظاهره كاستجابة لعملية بولونيا أو اتفاق بولونيا الذي تم توقيعه من طرف تسعة وعشرين وزير تعليم عال أو وزيرا مختصا من أوروبا عام 1999، ويرجع اسم الاتفاقية الى المكان الذي تم فيه الاعلان وهي مدينة بولونيا الايطالية بعدما قررت أوروبا القيام بإجراءات وخطوات عملية من أجل ايجاد فضاء أو منطقة أوروبية في التعليم العالي من شأنها أن تجعل معايير الدرجات الأكاديمية ومعايير الجودة أكثر قابلية للمقارنة وأقرب للتطابق في دول الاتحاد الأوروبي لتصبح المنطقة الأوروبية للتعليم العالي واقعًا بحلول عام 2010، ولعل منظومة إمد شكلت قارب نجاة بالنسبة للنظام البنعلوي الغارق في الأزمات السياسية أواسط العشرية الأولى من القرن الحالي لتكون تتويجا لسيرورة طويلة شكل فيها الحق في تعليم مجاني وديمقراطي مجالا للصراع السياسي حين ألبسها شعارا نوفمبريا جديدا "من الحق في التعليم إلى الحق في النجاح".
وهنا تجدر الاشارة الى أن نظام بن علي وبشهادة كل العاملين والمنتفعين من التعليم العالي والتربية والتكوين، عمد الى فرض هذه المنظومة بطريقة فوقية ومتسرعة ومرتجلة ان لم نقل أمنية على الرغم من مسرحيات اللجان القطاعية والاستشارية واللقاءات والاجتماعات والسفرات المتعددة و... والتي أريد منها في أواخر 2005 الانطلاق في النظر في برامج مشاريع الاجازات اعتمادا على مبدأ الاختلاف بينها لضمان التَنافس بين المؤسَسات، بيد أن الوزارة تخلت بعد ذلك عن هذا المبدأ لصالح الشهادات الوطنيَة المبنية على قاعدة التَكوين المشترك بين المؤسَسات بنسبة 75% على ألاَ يتجاوز التَكوين الخاصَ بكلَ مؤسَسة نسبة 25%، كان ذلك دون تقديم أي مبرر عن ذلك ودون تقديم أي معطيات عن سوق الشَغل وفي الغياب الكلَي لأيَة قوانين تنظَمها حتى جاء قانون فيفري 2008 أي بعد الانطلاق الفعلي في تطبيق المنظومة بسنتين، وهنا اصطدمت المؤسسات الجامعية بواقع معقد يصعب فيه تطبيق هذه المنظومة فيما يتعلَق بنظام المعادلات بين النَظام الجديد والنَظام القديم وتنظيم المراقبة المستمرة والإمتحانات النهائية السداسية دون الاخلال بالتَكوين الَذي يجب أن يستغرق 14 أسبوعا في السَداسي الواحد.
والمثير للجدل هو أن مرور هذا المشروع قد تم على مرأى ومسمع من نقابة التعليم العالي والتي تعتبر أكبر مؤسسة كانت جديرة بالتصدي على الأقل للطريقة التي تم بها فرض المنظومة والتي مسّت من مكانة الأستاذ الجامعي وهيبته حين تم اقصاؤه وتهميشه وحولته من عنصر رئيسي ومؤثر في العملية التعليمية في المؤسسات الجامعية كمصدر للمعلومات والمعارف بمختلف انواعها الى مجرد أداة بيد السلطة تقتصر مهمته على تنفيذ مخططات يشرف عليها أشباح نصبهم نظام الدكتاتور كأوصياء على التطوير من مردودية الجامعة التونسية، والأدهى من ذلك أن النقابة بادرت بالموافقة على نظام إمد وتبنت المشروع دون استشارة من تمثلهم واكتفت بالمناداة بتشريكها وطالبت بحقها في أن تجلس مع الوزارة على طاولة التشاور وهو مارفضته النخب السياسية سواء في التعليم العالي أو في أي قطاع آخر بما أسقطها في فخ الاعتراف الضمني بمنظومة إمد والانصهار في مسار بولونيا دون خلق الأطر والمرجعيات والتوجهات الأكاديمية التي تؤمن نجاحه.
اليوم يبدو أن المسؤولية المجتمعية تتجسد في أعمق أشكالها تجاه ملف التعليم المصنّف على أنه الأكثر جذرية في الدلالة على حقيقة الإصلاح عموما وخصوصا في دولة ثائرة كتونس، وهو ما يجعل تحدي الدولة من أجل المسار الديمقراطي سيأخذ تطبيقه الأكبر في مواجهة هذه المنظومة التعليمية ومدى تحقيق ديمقراطية حقيقية في ظلها، فحالة الاستبداد التي عاشت على وقعها كل مؤسسات الدولة انعكست داخل منظومة العلاقات داخل المدرسة التي تباشر إدارة وتأسيس ومراقبة التعليم بشكل مباشر وهو ما أثر طبيعيا على شبكة العلاقات داخل المؤسسة والتي تعكس طبيعة العلاقات المجتمعية السائدة لاعتبارها نسخة مصغرة من الدولة حيث تم قطع سبل التواصل الحر واستبداله بعلاقة أحادية رأسية من السلطة إلى الفرد، فالتعليم أساسه التواصل بين الفرد والجماعات والمؤسسات وهو ما يستوجب سعيا أكثر في سبيل بناء أسس دمقرطة حقيقية لهذا القطاع لارتباطه المباشر بواقع التعليم الحالي المبني أساسا على فلسفة ضد الديمقراطية، والسبيل الوحيد لذلك في اعتقادي هو التسليم بفساد المنظومة التعليمية والتربوية قاطبة وفشلها وعجزها على الاضطلاع بمهمتها في تعويض الدولة في بناء الانسان وتنمية المجتمع وكل من يتحدث عن خطة استعجالية لإصلاحها هو واهم لا شك، فعملية الاصلاح ليست مجرد عملية ادارية تؤسسها قرارات رسمية بل أن كل المعنيين
بالمنظومة التعليمية لا بد أن يحدد دورهم عبر التوافق المجتمعي الذي يضمن حدّا أدنى من الالتقاء على ثوابت لا يصح الاختلاف فيها ولا التنازع حولها، وهو ما يستدعي وجوبا القطع مع تسييس الجامعة وتنقيبها أيضا فالوصول الى تعليم نوعي يرتقي الى المستوى العالمي لا يزال بعيد المنال ومهمة الجامعة لا بد أن تجعل من البرامج التعليمية المعتمدة في جامعات العالم المتقدمة في متناول الجميع حتى يتمكن الطالب التونسي الغارق اليوم في غياهب المواد المكثفة والبرامج المتقلّبة من استيعاب الترابط والتداخل مع العالم الحديث ليكون سبيله نحو المصالحة مع سوق الشغل ويتحرر من قيود التعيينات الحكومية.






0 التعليقات :

الكاتب

اكتب وصف المشرف هنا ..

© 2013 . . تصميم من
قوالب بلوجر . تدعمه Blogger .