الأربعاء، 14 مايو 2014

لـغــة الشعــراء... بين أفق النص وأفق المتلقي

من طرف Unknown  |  سياسة :

لـغــة الشعــراء... بين أفق النص وأفق المتلقي





د. محمد خليل
السبت 5/5/2007


أَتكلَّّّمُ دُونَ أَنْ أَتَكَلَّمَ
أَسِيرُ دُونَ أَنْ أَسِيرَ
أَتَغَلْغَلُ بَيْنَ الوَرَقَةِ وَغُصْنِهَا
الشَّيءِ وَالشَّيءِ
وَحِينَ لا يَعُودُ يُتَمَيَّزُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ 
أَصْرُخُ مُنتَشِيا:
تَهَدَّمْ أَيُّها الوُضُوحُ، يَا عَدُوِّيَ الجَمِيلَ! (أدونيس).

  ليست قضية لغة الشعراء حديثة العهد، ولا هي من الإشكاليات الأدبية الجديدة، التي تواجه الشعر العربي، قديمه وحديثه ومعاصره. فقد سبق لها أن أثيرت، للمرة الأولى، في العصر العباسي الأول، وعلى يد كل من الشعراء العباسيين المعروفين: مسلم بن الوليد وبشار بن برد وأبي نواس، في جهودهم من أجل إحداث التغيير في نظام القصيدة العربية، باعتباره مطلبا ضروريا، يتمثّل بيئته الجديدة. فيما بعد، أي في العصر العباسي الثاني تحديدا، يتخذ ذلك التغيير منحى آخر، وعلى نطاق أوسع، وذلك على يد كل من الطائيين؛ أبي تمام والبحتري. 
  يجد القارئ أصداء تلك القضية الأدبية، في المفاضلة التي عقدها الناقد الأدبي المعروف الآمدي، في كتابه ((الموازنة بين أبي تمام والبحتري))، حيث أورد فيه من بين ما أورده: اتهام بعضهم، ولا سيما علماء اللغة، لأبي تمام بالخروج عن تقاليد العرب في أشعارهم، وذلك لجهة إفراطه في استخدام الاستعارة والمحسنات الفنية الأخرى، وشغفه بالصور والتصوير، وزخرفة التصنيع اللفظي، واعتماده الأدلة العقلية في أشعاره، على نحو لم تكن تألفه العرب، من قبل. وقد عُد البحتري محافظا على نظام القصيدة العمودية، وملتزما بها، وأبو تمام خارجا عليها. ما أدى إلى أن يأنف بعض العرب من شعر أبي تمام وينفر منه، حتى عدوه إفسادا للشعر، فكان " أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد، ثم اتبعه أبو تمام "(1). في حين ادعى بعضهم القول: إنما أعرض عن شعر أبي تمام من لم يفهمه، لدقة معانيه وغموضها، وقصور فهمه عنه! 
وقد عزا بعضهم شاعرية أبي تمام، إلى سعة علمه وإدراكه وحدة ذكائه. ومما يُروى فيه، أن ابن الأعرابي اللغوي المعروف، كان شديد التعصب على أبي تمام، لما كان يرد عليه من معانيه الغريبة، ما لا يفهمه ولا يعلمه، حتى أُنشد يوما من شعره، وهو لا يعلم قائلها، فاستحسنها، فلما عرف أنه قائلها قال: خرّق خرق! كذلك يُنسب إليه القول في شعر أبي تمام " إن كان هذا شعرا فما قالته العرب باطل "(2). وقيل إن السبب في ذلك، يرجع إلى عسر شعر أبي تمام على الفهم، لما فيه من إغراب وإبهام، ناهيك بغلو الشاعر في استخدام وسائل التصنيع المختلفة. ويروي الرواة أيضا، أن بعضهم سأله: لم تقول ما لا يُفهم؟! فكان جوابه حاضرا: لما لا تفهمون ما يُقال؟! الأمر الذي دفع بعضهم، آنذاك، إلى أن ينكر شعره ويُعرض عنه. وقد أثبتت الأيام، فيما بعد، أن أبا تمام كان شاعرا سابقا لعصره!
  في المقابل، كان أبو العتاهية مغرما بسهولة لفظه، وبعده عن الغموض والتعقيد، وحكايته مع سلم الخاسر معروفة، وذلك بعد أن أسمعه إحدى قصائده، قال له سلم الخاسر: لقد جوّدتها، لو لم تكن ألفاظها سوقية! فرد عليه أبو العتاهية: والله ما يُرغّبني فيها إلا الذي زهّدك فيها! وقد يكون ذلك نزولا، عند رغبة من كان ينادي بشعبية الشعر، لا باقتصاره على الخاصة. 
في ضوء ذلك، يمكن القول: ليس المطلوب هو الغموض أو الوضوح لذاته، إنما مدى الإبداع الذي فيه، ومدى النجاح أو الإخفاق، الذي في توظيفه.
واليوم، ما تزال تلك الإشكالية، كما يبدو، تستأثر باهتمام المهتمين، من شعراء وقراء ونقاد ودارسين، لما لها من حضور لافت، في الشعر العربي الحديث، والمعاصر على وجه الخصوص، لذلك نراها تعود لتطل برأسها من جديد. 
ويحسب المرء، أن الشعر العربي المعاصر، في الآونة الأخيرة، يواجَه من قبل بعض القراء، بردود أفعال متشنجة حينا، قد تصل حد القسوة بل والتجني أحيانا، وذلك بسبب لغة هذا الشعر. ففي منظور هؤلاء القراء، تزخر لغة هذا الشعر، بإيحاءات رامزة وأخرى أسطورية، يلفها لبوس من الإبهام والإغراب والتعقيد، لا يتناسب لا مع واقعهم، ولا مع ذائقتهم الفنية، ولا حتى مع ثقافتهم! وحين يسقط في يدهم، لعدم قدرتهم على فهم لازم معناه، أو قصورهم عن سبر غور قصيدة ما، أو بعض أبياتها في أقل تقدير، يسارعون إلى رفع عقيرتهم بالاحتجاج على هذا الشعر، ورفضه والصدود عنه، معلنين: أنه لا طائل تحت مثل هكذا شعر، ومثل هكذا لغة! 
وقد يحدث أحيانا أن يبالغ بعضهم ويتعسف في الحكم، كأن يلغي، بجرة قلم، أو بكلام متسرّع مثل هذا الشعر، وليس هذا فحسب، بل تجد لديهم الجرأة على التهجم والتعرض للشاعر وشعره بالطعن والتجريح، بكلمات نابيّة قامعة ومسفّة، لا تمت إلى الأدب بصلة، لدرجة أن القلم يربأ عن تدوينها، واللسان عن ذكرها، محاذرة أن تقع أعين الناشئة من أبنائنا وبناتنا عليها! والسؤال الذي قد يتبادر إلى الأذهان: هل إذا لم يرق أفق أحدهم أو بعضهم، إلى أفق نص ما، يصبح الشعر ومبدعه مدعاة للطعن والتجريح والإلغاء؟! هذا لا يجوز! 
لقد تجاهل هؤلاء أو جهلوا أن أغراض الأدب نبيلة وسامية، فيها ما يمتع ويفرح، فيها معرفة وإثراء، وتوسيع آفاق ووعي وإدراك، والعبارة النبيلة، تصدر عن النفس النبيلة. 
  يُذكر، في سياق متصل، أن الشاعر محمود درويش، كان قد تعرّض هو أيضا، إلى شيء من هذا القبيل، في بداية مسيرته الشعرية، وذلك حين طالبه بعض القراء بالكف والعدول عن مثل تلك الأشعار الغامضة، التي تكلّف القارئ مؤونة التفكير وإعمال الذهن، كما يدعون. والذي يبدو، أنه يوجد بين القراء من يحبذ الشعر الواضح والسهل، الشعر الذي ينقاد لقارئه من القراءة الأولى، ويتم فك أسراره من اللقاء الأول، فالإنسان، بطبعه، صديق لما يألف عدو لما يجهل، والسبب، ربما هو وجع الرأس الذي قد يلحقه من هذا ((العدو المجهول))! لذلك، تجده يؤثر البقاء على السطح دون الأعماق، يقول ابن الأثير " وأفخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه"(3)! ويقول آخر "من يحارب هذا الشعر باسم ((الغموض)) يحارب الأعماق من أجل أن يبقى على السطح، ويحارب البحر من أجل أن يبقى في الساقية "(4)! 
ولنا أن نتصور للحظة، لو أن درويش قد استجاب إلى مثل تلك الدعوات!! 
وفي الحق، إن مثل هؤلاء القراء مثل من يقوم بجولة، في أرض غير معروفة لهم، ولا أقول يجهلونها، الأمر الذي قد يجعل ((أحكامهم)) تلك مزاجية، وأقرب ما تكون إلى العشوائية منها إلى الموضوعية، وبالتالي فإن أقل ما يمكن أن يقال فيها: إنها ناتجة عن تجربة شخصية، يغلب عليها الافتقار إلى آليات القراءة المطلوبة: الثقافية والأخلاقية والدينية والسياسية، وما إلى ذلك، لهذا السبب وربما لأسباب أخرى، تراهم يذهلون ثم يهربون إلى ما هو أسهل من ذلك؛ إلى التهجم على شعراء، لا ذنب لهم سوى أنهم لم ينظموا أشعارهم بلغة يفهمها هؤلاء! ما قد يثير التساؤل: تُرى هل يوجد بيننا، من يطمح إلى أن يجعل الشاعر يفصّل له لغة وفق مقاساته؟! 
 وليس فيما أوردناه، ما يرمي إلى تقييد حرية القارئ، أو الحد من سلطة القراءة على النص، أبدا، ولكن لأجل جلاء بعض حدود القراءة، لاسيما إذا تذكرنا أن النص هو أيضا سلطة قائمة بذاتها. وقد عبّر أحد النقاد عن تلك الإشكالية بالقول:  " وبذا نجد أنفسنا في مواجهة خطيرة مع فعالية القراءة، فقد منحناها سلطة على النص تجعلها ذات قيمة أولية، وهذا قد يدخل علينا مشاكل معقدة تأتي من جرأة القراء على النصوص، وقد لا يكونون قراء مؤهلين لأداء هذا الدور، فكيف نحمي النص من الضياع ومن أن يكون ضحية للتطرف في فتح باب القراءة الحرة؟ إن الحماية الحقيقية للنص هي (السياق)...والقارئ حينما يستقبل النص فإنه يتلقاه حسب معجمه ". ثم يتابع " وهذه مقدرة ثقافية لا تهيأ إلا للقارئ الصحيح، وهي ما يمكن تسميته (بالسياق الذهني)، أي المخزون النفسي لتاريخ سياقات الكلمة، ومن يملك هذه المهارة فهو القارئ الصحيح. أما من قصرت باعه عن بلوغ هذا المستوى من الوعي القرائي، فإنه لا أمل يرجى فيه بأن يفسر نصا أدبيا تفسيرا سيميولوجيا أو تشريحيا، يمكنه من سبر أبعاد النص. والعيب عندئذ ليس في النص ولكن في القارئ نفسه، ما يذكرني بمثل ضربه ابن سينا ويصدق على حالة كل العاجزين الذين هم (كمن لا يتهيأ له أن يتخذ من الخشب كرسيا، فإن ذلك ليس لأمر في نفس الخشب بل لأمر في نفس الصانع) "(5)! 
ولا يستطيع قارئ، أيا يكن، الإدعاء بأن الكلمة الأخيرة، أو القول الفصل هو له. حتى ناقد متبصر أو مختص، لا يمكنه أن يدعي مثل هذا الإدعاء، فما بالك بقارئ عادي؛ غير مختص؟! فالقراءة، كل قراءة، هي نفسها، قابلة لقراءة أو لقراءات أخرى، فكيف بالنص؟! بكلمات أخرى النقد، كل نقد، إن هو إلا مجرد مقاربة ليس أكثر، وقد يكون أقل. وأعظم النقاد لم يستطيعوا إصدار حكم قطعي لأي واحد من المعاني الممكنة، ولا كشف كل جوانب نص ما كاملة. إن نقد أي أثر أدبي، هو الثمرة النهائية لتجربة ناضجة ومتمكنة، علما أن عملية إطلاق الأحكام التقويمية أو المعيارية، أصبحت، اليوم، كما يقول أوسكار وايلد(6) أقرب ما تكون إلى المزاد العلني، منها إلى النقد الأدبي، وذلك لأنها أمور ذاتية، وهو ما يجعلها تقف في عداد منزلقات النقد الأدبي. لهذا السبب، يحسن بالناقد الحصيف أن يتحاشاها، قدر الإمكان، وإلا فمن ذا الذي يجرؤ على الإدعاء بأن ميزانه ميزان عدل وصدق بالمطلق، ولا يأتيه الباطل من خلفه أو من أمامه؟! 
هذا الكلام، يجعلنا نعتقد أنه بالإمكان، أحيانا وفي حال تعذّر علينا فهم شعر ما، ويكفي أن نتذوقه ونتمتع به، في غير جمالية من جماليات التلقي، حتى دون أن نفهم معناه الذي يرمي إليه الشاعر، وخير مثال على ذلك الموسيقى. فهل جميعنا يفهم الموسيقى؟! أم أنها تطربنا، وقد تنقل بعضنا إلى حد النشوة، حتى دون أن نفهمها؟! ولذلك قيل: الموسيقى لغة العالم!
ويثبت واقع الحال، مع ذلك، أن هنالك ضرورة ماسّة للعمل على تهيئة القارئ، في كل ما يُمكن أن يسهم في فهم أفضل للنص، وحثه على التفكير في أنماط وطرائق استقرائية وأخرى استنتاجية متقدمة، بغية استنطاق النص، وكشف الغطاء والحجب عن مكنوناته، وملء فجواته، والتفاعل معه، تفكيكا وتركيبا، تفسيرا وتأويلا. وهذا كله لا يمكن أن يتحصّل إلا لقارئ ذي أفق وفهم، وصاحب مرجعية مهنية وأخرى ثقافية، تمكنه من الربط بين النص؛ القصيدة على سبيل المثال، وسياقاتها، وأسئلتها، ودوافعها المختلفة: النفسية والتاريخية والفنية والاجتماعية الخ... 
قد يكون من نافلة القول، الإشارة إلى أن الشاعر، وكل فنان آخر، لا يستطيع أن يعيش بمعزل عما يدور من حوله، فهو لا يعيش وحيدا في هذا العالم، ولا يستطيع أن يتجاهل أو يعرض صفحا عن مواكبة التطورات والمتغيرات المتلاحقة، التي تحدث على الساحتين المحلية والعالمية. ثمة بون شاسع بين واقع الشعر قديما، وقد كان محصورا في الصحراء والبعير والخيمة والمرأة، وحديثا لا حصر له، وقد تشعبت المنابع التي ينهل منها هذا الشعر، ما زاده غموضا وتعقيدا، لقد اختلف الزمان والمكان، وتغيرت الحياة تغيرا جذريا، واختصارا يمكن القول: لا وجه للمقارنة أبدا! فكان لزاما على الشعر العربي أن يتغير " الشعر العربي، الآن، مغامرة في الكشف والمعرفة، ووعي شامل للحضور الإنساني "(7)!
لهذه الأسباب مجتمعة، يقتضي الشعر لغة مشاكلة، لغة لم تكن وليدة الصدفة، إنما هي ثمرة وانعكاس لمتغيرات وتطورات، حدثت أو يمكن أو يجب أن تحدث، على أرض الواقع. من هذه اللغة ينهل الشاعر مفرداته وتعابيره، وهي وإن تكن تفرض نفسها فرضا على الشعراء، لكنها، في الوقت نفسه، تمكنهم من تخير ألفاظها ومفرداتها المناسبة، بما يتوافق مع الفكرة، ويليق بالمعنى أو بأنماط شتى من تعدد المعاني، عند ترجمتها إلى لوحات تصويرية وأخرى تعبيرية، وهو ما يعني ضرورة موافقة الكلام لمقتضى الحال. 
هذه العملية التوليدية، هي التي يمكن أن تؤهل لغة الشعراء، لكي تصبح لغة فنية خاصة ومثيرة، لغة بعيدة إلى حد كبير عن اللغة العادية أو لغة الحياة، وهو الأمر الذي يتفق عليه النقاد جميعا " إن الرمزية تأخذنا إلى عالم من المعرفة فوق العالم العادي "(8)، وكذلك " إن لغة الشعر هي اللغة-الإشارة، في حين أن اللغة العادية هي اللغة-الإيضاح "(9). ولو كانت لغة الشعراء، لا تعدو كونها صورة أو نسخة طبق الأصل عن اللغة الاعتيادية أو المألوفة، فأية مزية فضل لهذا الشاعر؟! ومرة أخرى، لو كانت لغة الشعراء اعتيادية ومألوفة، لأصبح كل الناس شعراء!! 
وتعد لغة الشعراء لغة خاصة لأنها سياقية، وتأسيسا على ذلك، فهي هُوية النص التي تحفظه من الضياع، يصوغها الشاعر في أنماط لفظية خاصة؛ مفردات وتعابير لمّاحة، بما تشتمل عليه من ثراء دلالي، وانزياح، وحشد، وتركيز، تؤدي كلها صورة أو معنى سياقيا خاصا، مختلفا عن المعنى المعجمي.  
لقد نسي هؤلاء المحتجون، أن لغة الشعراء هي أداتهم وهي حقهم وحدهم ، بها 
يتحقق إبداعهم، وإن كانت عصيّة على التحليل والفهم أحيانا، ومن مثل الشعراء أدرى، كما يُفترض، بشعابها وأفاويقها، وهي ناتجة عن معاناة توليدية: ذهنية ونفسية وجسدية. لذلك، فإن الشعر وكل إبداع آخر لا يمكن أن يخضع لأي قيد أو شرط. يقول وليم بليك " الشعر إذا قُيّد قُيد الجنس البشري، والأمم تتحطم أو تزدهر، بقدر ما يتحطّم أو يزدهر شعرها ورسمها وموسيقاها "(10)! 
إلى ذلك، فإن لغة الشعراء تعكس، في بعض أوجهها، ثقافة الشعراء أنفسهم، وسعة أفقهم واطلاعهم وإدراكهم، في استباق الكشف ورؤية ما لا يراه غيرهم، في رؤية كلية وشمولية، وقدرتهم على إخصاب أوجه الحياة المتعددة، ومهارتهم في إثارة القارئ وأخذه إلى عالم رحب من المعاني والمعرفة والتفكير، وبالتالي فإنها شيفرة كل شاعر، تفرقه أو تميزه عن سواه " فالشاعر إذا بشخصه وثقافته وحياته وبيئته، عنصر أساسي في ولادة المعاني وطرق صياغتها شعرا، وهو أمر لا بد أن يُعطى ما يستحق من الاعتبار، عند قراءة النص واستقطار المعاني "(11). 
وهكذا، نجد أنفسنا أمام ثقافتين، الواحدة في مواجهة الأخرى: ثقافة المبدع؛ الشاعر وثقافة المتلقي .  
كذلك، فإن لغة الشاعر تثبت قدرته على التطور، ومواكبة متطلبات الحياة واللغة في آن، يقول عميد الأدب العربي " إن لنا في هذه اللغة التي نتكلمها ونتخذها أداة للفهم والإفهام حظا يجعلها ملكا لنا، ويجعل من الحق علينا أن نضيف إليها ونزيد فيها، كلما دعت إلى ذلك الحاجة أو قضت ضرورة الفهم والإفهام، أو كلما دعا إليها الظرف الفني، لا يقيدنا في ذلك إلا قواعد اللغة العامة التي تفسد اللغة إذا جاوزناها. فليس لأحد أن يمنعك أو يمنعني أن نضيف إلى اللغة لفظا جديدا، أو ندخل فيها أسلوبا جديدا، ما دام هذا اللفظ أو هذا الأسلوب ليس من شأنه أن يفسد أصلا من أصول اللغة...والكتّاب والشعراء في كل عصر وفي كل مكان يضيفون إلى لغاتهم ويدخلون فيها ويجددونها "(12). 
الشعر كما قال إليوت ليس إطلاقا للانفعال، ولكنه هروب من الانفعال، إنه ليس تعبيرا عن الشخصية، ولكنه هروب من الشخصية. بمعنى الانعتاق من عالم الذات، أيضا، من الداخل إلى الخارج، إلى عالم أرحب، إلى الحياة؛ غاية كل فن. التقنيات الفنية، على أنواعها: من استعارة ورمز وأسطورة الخ...، يمكنها أن تسعف في تحقيق تلك الغاية. لننظر إلى الشاعر الانكليزي شكسبير، فإنك لا تكاد تعثر له على أي أثر أدبي يخلو من الأسطورة، كذلك، الشعراء التموزيون، فقد كان للأسطورة حضور طاغ في أشعارهم.
وتختلف لغة الشعر، عن لغة العلم، على سبيل المثال لا الحصر، ففي حين يقول الشعر كلمته، في الأغلب أو كما يُنتظر، تلميحا، يقولها العلم تصريحا، العلم يستخدم اللغة المباشرة، بينما لغة الشعر غير مباشرة، وهي لغة كثيفة وموحية، هكذا هو الفن دائما غير مباشر، والشعر ليس نشرات إخبارية أو إعلامية، أو دعائية، إنه لوحات فنية. من هنا تنبجس ضرورة التفرقة بين لغة الكلام الشعري ولغة الكلام العلمي. ويحسب المرء أنه من الصعوبة بمكان، أن نتصور شعرا معاصرا، ولا نقول حداثيا، خلوا من الإيحاءات الرامزة والأسطورية، والمحمولات المكنية الأخرى، والتي تكاد تكون سمة ملازمة لا محيد للشعر المعاصر عنها، حتى أصبح السليل المباشر لها وابنها الشرعي، فقد يكون الغموض دليل غنى وعمق! 
وللإشارة فقط،، لم يكن الشعر وحده من يمتح من بعض تلك الآليات، كالأسطورة على سبيل التمثيل، فهنالك فنون أخرى تفعل ذلك، كالموسيقى والفنون التشكيلية أيضا. وهكذا يستطيع المرء أن يلحظ، ما للأسطورة من سلطان وقوة وسطوة على النفس، والنفاذ إلى أعماق الإنسان. 
ويحتاج الشعر الجديد إلى لغة جديدة، لما لها من أثر وتأثير في تطوير اللغة وإثرائها، في سياقات توليدية جديدة وجميلة، تزخر بالمواقف الفكرية ودلالاتها، والصور التعبيرية وإيحاءاتها، أما إلى أي مدى قد ينجح الشاعر أو يخفق، في توظيف تلك الآليات، فذاك موضوع آخر، ما يؤكد أن تلك آليات، لا يمكنها أن تصنع شعرا أو شاعرا، كما أن الروب لا يمكنه أن يصنع محاميا، ولا الطيلسان طبيبا! إنما الشأن في الإبداع، فالطبيب ينظر في صحة الإنسان، والفيلسوف الطبيعي في الطبيعة، وكذا الميتافيزيقي ينظر في الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة)، والمؤرخ فيما فعله الناس، ما عدا الشاعر؛ الشاعر الحقيقي، فإنه لا يُحاكي الأشياء عن مثال إنما يبتكرها، ويخلقها أي يبدعها، فالإبداع عنده الخاصية المميزة له، وهو حقا مبدع، ولذلك قيل في النبي: إنه شاعر لما يتخيله أو يتهيأ له، وكأنه مسكون بالجن، يلهمه أو يوحي له، من منطلق أن الشعراء يوازون الأنبياء!
ومن الطريف المدهش، أن نجد أحد الكتاب القدماء يقول كلاما، في فن الكتابة؛ منظومه ومنثوره، ما يزال ملائما إلى الآن، وكما يبدو في كل أوان " وبالجملة فإن صاحب هذه الصناعة (النثر والشعر م. خ.) يحتاج إلى التشبث بكل فن من الفنون؛ حتى إنه يحتاج إلى معرفة ما تقوله النادبة بين النساء، والماشطة عند جلوة العروس، وإلى ما يقوله المنادي في السوق على السلعة، فما ظنك بما فوق هذا، والسبب في ذلك أنه مؤهل لأن يهيم في كل واد [في كل مجال م. خ.] فيحتاج أن يتعلق بكل فن "(13)!

هوامش

(1) الآمدي: الموازنة ، تحقيق محمد عبد الحميد، ص19 ، القاهرة ، 1944 .
(2) الصولي: أخبار أبي تمام، ص244، المكتب التجاري، بيروت، د. ت. .
     (3) ابن الأثير: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ج2، ص393، المكتبة العصرية، بيروت، 1999 .
(4) أدونيس: زمن الشعر، ص284، دار العودة، بيروت، 1996 .
(5) الغذّامي: الخطيئة والتكفير، ص78-79، النادي الأدبي الثقافي، جدة، 1985 .
(6) نورثرب فراي: تشريح النقد، محاولات أربع، ترجمة محمد عصفور، ص30، منشورات الجامعة الأردنية، عمان، 1991 . 
(7) أدونيس: زمن الشعر، ص44 .
(8) ونفرد نوتني: لغة الشعراء، ترجمة عيسى العاكوب وخليفة العزابي،   ص214، بيروت ، 1996 .
(9) أدونيس: زمن الشعر، ص17 .
    (10) جبرا إبراهيم جبرا: الحرية والطوفان، ط3، ص119، بيروت، 1982 .
 (11) محمد عبد العظيم: معاني النص الشعري، طرق الإنتاج وسبل الاستقطار، بحث في صناعة المعنى وتأويل النص، ص220، منشورات كلية الآداب، منوبة تونس، 1992 . 
   (12) طه حسين: حديث الأربعاء، ط8، ج3، ص29، دار المعارف، مصر، د.ت. . 
  (13) ابن الأثير: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ج1، ص48 .

0 التعليقات :

الكاتب

اكتب وصف المشرف هنا ..

© 2013 . . تصميم من
قوالب بلوجر . تدعمه Blogger .