أبو القاسم الشابي :الحاضر دائما في الرّاهن الإنساني ~الشاعر التونسي سامي السنوسي~
كيف الولوج إلى عالم الشابي الشعري وقد تناولته عشرات الكتب والدراسات الأكاديمية بما يجعل تكرار مختلف الأفكار نوعا من اللغو والثرثرة؟
أكان موته المبكر سببا يتيما، كفيلا بتخليده؟ أم أنّ
"إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر
ولا بدّ لليـــل أن ينجلـــــي ولا بدّ للقيد أن ينكســـر"
كافية لحضوره الطاغي في المشهد الشعري العربي والتونسي رغم وفاته المبكرة؟
الشابي حاضر دائما في الضمير الإنساني لذلك لا يمكن القول أنّه الشجرة التي تحجب الغابة وهذا الرأي مع الأسف يجد رواجا عند النخبة التونسية التي تستند في رأيها إلى أنّ اهتمام المشارقة كما المغاربة بالشابي فقط، يخطف منهم الأضواء ويساهم في تقزيم تجاربهم الشعرية.
إنّ ارتباط قصائد الشابي بالراهن الإنساني في مفصلَيْه الفردي والعام هو الذي خلّده.
أليس الراهن العربي الحالي دليلا على صحة هذه الفكرة فما تعرضّ له لبنان، ثم العراق وفلسطين يحيلنا مباشرة على بيته الشعري المعروف حول إرادة الحياة...
كلما تناسلت الأزمات واشتدت علينا محن الحياة، نبحث عن فكرة أو صورة تحثنا على الصمود وعدم الخضوع والقبول بالأمر الواقع. وهنا نستظل بأبياته التي حفرت لا في ذاكرتنا ووعينا فحسب، بل في الوجدان الإنساني. إن القيم التي دافع عنها الشابي حاضرة بقوة على مرّ السنين والأجيال لذلك لا عجب في خلود شعره وهو الذي تعمّق في دواخل الذات الإنسانية، كاشفا عن رهافتها ورقتها وضعفها...وعن حلمها البسيط في حياة يسودها الحب والطبيعية الخلاّبة، لكأنّ هروبه نحو الرومانسية دليل آخر على أن الإنسان بلا حلم وبراءة، يستطيع أن يتحول إلى آلة لها شكل الدبّابة والمدفع والطائرة النفاثة كما نرى الآن !!
كأنّه أدرك موته القريب، فتمسك بحقّه في الحياة والحلم والإرادة فكان له ما أراد: الخلود
" و من لم يرم صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر"
إنّ هذه الإرادة هي التي يبحث عنها الإنسان كلّما ضاقت به الحياة كي يستطيع مواصلة طريقه نحو تحقيق أحلامه وطموحاته البسيطة، والشابي خرج بنا من الحالة الشعرية البحتة إلى الحالة الإنسانية الشاملة ولعلّ إضافته تكمن في هذا الانتقال غير المرئي الذي تماهى مع ذواتنا حتى الذّوبان...كأن أبيات الشابي ملك شخصي لكلّ فرد منّا. حالة التقمص هذه ليست متاحة لكل الشعراء، وهنا يكمن
الفرق والحديث عن تقصير نقدي في الاهتمام بالتجارب الشعرية التونسية الأخرى يصبح غير موضوعي فالشابي أصبح ظاهرة حققت شعرية تجاوزت الحدود التونسية والعربية، والإنتقال من حالة
الشعر إلى حالة الظاهرة للكبار فقط من الشعراء كالشابي، المتنبّي، نزار قباني، محمود درويش وغيرهم...
ثم كم لنا من ظاهرة غير الشابي لنهتم بها؟
وكم لنا من شابي آخر حتى ننقطع عن الكتابة عنه؟
إننا وإن كنا ضد "تقديس" تجربة الشابي الأدبية، فإننا أيضا ضد محاولات تقزيمه والحط من قيمة شعره.
حين استحضر الشابي اليوم، لا أعرف كيف أفصل بين شعره و الراهن الإنساني: إنه الإنسان في أعمق تفاصيله و اختلاجاته . ونحن اليوم في هذا القرن الجديد، وأمام هول الدمار الذي أصبح وجبتنا اليومية ...عدنا إلى أشعار الشابي فإذا بأبياته مازالت ساطعة وجديدة، نستمد منها روحا صافية وعزيمة لا تلين...
0 التعليقات :