القصيد النثري الأول للشابي : بقايا الشفق
كتبه الشابي بتاريخ 9 أوت 1925 هو أول نص من قصيد النثر وصلنا لأبي القاسم الشابي ، والشفق لغةً كما في ـ لسان العرب ـ يفيد بقية ضوء الشمس و حمرتها في أول الليل ،فهو حينئذ البُرهة الفاصلة / الواصلة بين الليل والنهار فكأن هذه القصيدة إذن تعبّر عن فترة مهمة في مسيرة الشابي الشعرية ألا وهي اِنتقاله من كتابة الشعر العروضي إلى كتابة الشعر النثري !
القصيد موقف تأملي في الحياة و الموت من خلال اِستبطان الذات عند مشهد الشمس وهي تغيب بآخر ضيائها فتنساب الخيالات و الرؤى بين مُساءلات حينا و بين ذكريات حينا آخر لكأن الشاعر يواجه ذاته في لحظات الكشف و الحقيقة حيث تبدو القصيدة تماما كالمرآة قائمة على مبدإ ثنائية التقابل و التناظر منذ البداية :
أين أنت؟
أيتها الأحلام العذبة التي كانت تبسم لي
من خلال الظلام
فتفعم آفاق نفسي
بأنوار الرجاء
وترفّ بسكون حول قلبي هامسة
في مسامعه أنشودة الأمل
في أي واد تلاشيت؟
وفي أي لحد ضّم صداك؟
فالتقابل واضح في هذه اللوحة الأولى على مستوى معاني الكلمات كما في ـ الأنوار ـ الأحلام ـ الرجاء ـ الأمل ـ من ناحية و كلمات ـ الظلام ـ الواد ـ اللحد ـ من ناحية أخرى، ويتواصل هذا التقابل على مدى اللوحة الموالية في مستوى الإسناد الإضافي كقوله أهوال الظلام وقطوب الأشواك من جهة و بين أنوار الصباح و اِبتسامة الأزهار من جهة أخرى :
أين أنت؟
أيتها الأجنحة البيضاء المتألقة تحت أشعة الشمس
كعرائس الشعر
لقد طلبتك بين أنوار الصباح
فلم أجدك
وفتشت عنك بين أهوال الظلام
فما رأيتك فتشت عنك في ابتسامة الأزهار
وفي قطوب الأشواك
وفي كل أطواء الحياة
ومظاهرها
فما وجدتك
إنّ الثنائية في القصيد تتمثل كذلك على مستوى تركيب الجملة مثل قوله ـ أين أنت أيتها الأحلام العذبة ـ و قوله ـ أين أنت أيتها الأجنحة البيضاء ـ
و كذلك قوله ـ في أيّ واد تلاشيت ـ و قوله ـ في أيّ لحد ضمّ صداك ـ
ثم قوله عند آخر القصيدة ـ حتّام تنوحين وقد صُمّ مسمع الأيام ـ وقوله ـ إلام تسترحمين و قد اِنصرفت مسامع الليالي ـ
و في قوله ـ أيها الموت الأصم الأخرس و قوله كذلك ـ أيتها الشعلة المظلمة الملتهبة ـ
إنها ثناية الليل و النهار ،و ثنائية الظلام و الأنوار ،و ثنائية العذوبة والمرارة ،و ثنائية الأزهار و الأشواك ،و ثنائية الرجاء و الأسى ،و ثنائية الأمس و اليوم ،و ثنائية الحياة والموت ، كما لاحت في القصيد عند مشهد الشفق .
القصيد إذن تعبير آخر جديد في غير الشعر العروضي الذي يُقيّده وزن وتحدّه قافية حيث راح الشاعر منطلقا في المعاني و الصور والإيحاءات بترجيع و تكرار حينا و اِنسياب و اِنطلاق حينا آخر كأنه وهو يرنو إلى الشفق إنما يغوص في كنه ذاته يراجع نفسه بين الوجود والعدم فلا يقف على يقين فتراه يمضي مبحرا في المدى البعيد...
بلى...كتب الشابي نص هذا القصيد
و هو لمّا يتجاوزْ السنة السادسة عشرة !!
نحن إذا عدنا إلى القصائد التي كتبها الشابي في فترة كتابة هذه القصيدة ـ 9 أوت 1925 ـ نلاحظ أن تلك القصائد لا تكاد تخلو هي كذلك من نزعة التأمل ومن بعض معاني هذ القصيد النثري وصوره فالشابي يقول في قصيدة ـ من كلام الشيوخ ـ وقد كتبها قبل أيام قليلة وذلك
بتاريخ ـ 5 أوت 1925 ـ و هي ذات أربعة أبيات في ديوان ـ أغاني الحياة1 و ذات ستة أبيات تحت عنوان ـ كَلِم الشيوخ ـ في قسم القصائد التي تنشر لأول مرة :
لقد خدعتني في الحياة شبيبتي
و لكنني قد حنكتني التجارب
فلقد كنت ألقي للدجى برغائبي
فأبصرها فوق الدُّنا تتخاطب
و لكن أحلام الشباب ضئيلة
تحطمها مثل الغصون المصائب
سألت الدياجي عن أماني شبيبتي
فقالت ترامتها الرياح الجوائب
و لما سألت الريح عنها أجابني
تلقفها سيل القضا و النوائب
فصارت عفاء واِضمحلت كذرة
على الشاطئ المحموم و الموج صاخب2
و نرى الشابي يقول في قصيدة له بعنوان ـ جمال الحياة ـ بتاريخ 19 جويليا 1925 وقد جعل من التأمل في الدّهر المحور الذي تدور حوله بقية المعاني والصور تلك التي تمثل ثنائية الظلام و الضياء بدلالاتهما المتناقضة التي أورد الكثير منها في قصيد ـ بقايا الشفق ـ غير أنه عكس الإطار الزماني فجعله أول الصباح في قصيدة ـ جمال الحياة ـ حيث نراه يقول;
سرت في الروض و قد لاحـــــــــــــــت تباشير الصباح
و جناح الفجر يومــــــي نحو ربات الجنــــــــاح
و الدجى يسعى رويـــدا سعي غيـــــــداء رداح
إلى أن يقول:
هكذا الدهر بأزيـــــــاء غُـــــــــــــــدوّ و رواح
و ضيــــاء و ظـــــــلام و سكون و صــــيـــــاح
و نشــــيد و نـــــــواح و اِنقبـــاض و اِنشــراح
إنما الـــدهــر و ميثــــــــــــــــــاق الليالي كســـــجاح3
إن الذي يمكن أن نستنتجه من خلال المقارنة بين هذا القصيد النثري الأول ـ بقايا الشفق ـ وبين ما قاربه في تاريخ الكتابة من القصائد الأخرى ، أن الشابي قد اِنطلق فيها جميعا من نفس الحالة الوجدانية تقريبا و انتقل بين أرجاء نفس المعاني بما فيها من إحالات وأبعاد ورموز تتمحور كلها حول الإحساس القوي و المبكّر بالزمن وحول التأمل في الصراع الأبدي بين ثنائية الحياة والموت ممّا يؤكد أن الشابي ينسج من نفس اللحمة و السدى سواء في قصيده النثري هذا ، أو في بقية قصائده العروضية التي كتبها في نفس الفترة أي صيف 1925
إن تعبير الشابي بالقصيد النثري يندرج ضمن بحثه عن التجديد في سياقات مجالات التجريب تلك التي مارسها في قصائده السابقة ولكن دون أن يخرج فيها عن الضوابط العروضية الأساسية أما في هذه القصيدة فكأنه يمرح في جنان الشعر بلا رقيب وبلا قيد ولا حد ! فراح على سجيته مرفرفا ومبحرا فإذا القصيد ينثال بالمعاني لوحات و صورا متوالية حينا و في رتابة وعود على بدء أحيانا مما يمنحه تحررا و اِنطلاقا أكثر فنراه يمضي إلى الأمام يكتشف الآفاق نحو الجديد أكثر ما يلتفت إلى الوراء على رجع صدى القديم ونلاحظ هذا التباين بوضوح في مستوى الكلمات و صياغة الجمل وعلى مستوى اللوحات والصور بل و على مستوى نبرة لغة الخطاب أيضا حيث أنهى قصيده الجديد بكثير من الجرأة والتحدي اللذين لم نعهدهما في شعره السابق :
أيتها الحياة الهاجعة
في كهف الأسى
حتّام تنوحين
وقد صُمّ مسمع الأيام
وإلام تسترحمين
وقد اِنصرفت مسامع الليالي إلى ضجات المظالم
وأضحت القلوب قاسية كالموت
صماء كآذان القبور
أيها الموت الأصم الأخرس
أيتها الشعلة المظلمة الملتهبة في صدر الحياة
ألا تخمدين ؟
حتى ترتل الحياة أنشودة الخلود العذبة
مكلّلة
بإكليل الأبد الرائع !
فهل أن تحرر الشابي من العروض جعله ينطلق بحرية أكثرفي خيالاته وأفكاره ؟
0 التعليقات :